المرأة بين بيكاسو وبلزاك

آمنة الحربي

 

بالغ الفلاسفة والمفكرون في وصف المرأة وتحليل بشريتها وطباعها وتصرفاتها، فمنهم من مجدها إلى حد غير مقبول، ومنهم من جردها من كينونتها الجميلة وفطرتها البشرية الناعمة. فكانت المرأة منذ الأزل مثاراً للجدل، ومرتعاً خصباً لضروب أفكارهم على اختلاف أهوائهم وتباين أمزجتهم، فالبعض منهم اعتبرها تلميذة للشيطان، والبعض الآخر رآها مصدر كل شر. ومنهم من أسهب في بلورة تفسيراته عن المرأة، بينما عبر عنها آخرون بشكل واضح، وهنالك من تجاوز الفهم الميتافيزيقي لعالم النساء. وما بين التنصل من القيم إلى عدمية القيم بلغت تفسيراتهم من التشعب حداً مبالغاً فيه ...

بقيت المرأة كائناً مثيراً للجدل والريبة بفعل محاولات فرضت عليها، لزجّها خارج الفضاء الاجتماعي دونما برهنة مقنعة. ولكن ذلك لم يمنع المرأة من المحاولة الجادة للخروج من تلك البوتقة، والعمل على إعادة تأسيس القاعدة المعرفية التي فرضت عليها لسنوات، كما أن النزعة الإنسانية التي طرأت على المجتمعات العربية أتاحت لها إمكانية التطوير وظهور الانتقال من الوعي التقليدي إلى الوعي الحديث، وتبلورت مفاهيم ثابتة وقيم ومعايير أخلاقية واجتماعية مختلفة وجديدة ساعدت في الانفتاح بدون قيود، لأن القيم الفكرية والثقافية تتبدل بتبدل النظم الاجتماعية، وقد نشأ عن هذا التحول سيرورات ذهنية تشجع على الانفتاح وساهمت في إعادة توظيف القيم والدلالات والمفاهيم عن المرأة، كما أن اندماج المرأة في الثقافة ما هو إلا نتيجة حتمية لصراع بين الوعي والثقافة التي فرضت عليها بعضاً من العقد التي تتطلب إعادة إصلاحها، وبقي ذلك الكائن المسمى (المرأة) المخلوق الضعيف والنسمة الرقيقة، والزهرة العطرة التي ما زالت ترمى بالأقاويل، وتلحق بها الشائعات، وتقذف بأقسى الاتهامات.

إن الحديث عن إشكالية المرأة في الفلسفة يقودنا مباشرة إلى فيلسوف ينحدر من أصول فرنسية دفع بالمرأة إلى أقصى درجات الأذى، وهو الفيلسوف أناتول فرانس الروائي والناقد الفرنسي الذي ولد في باريس في 16 أبريل 1844 لعائلة تعمل في الفلاحة وتوفي في 12 أكتوبر 1924. وكان من أبرز رواياته (جريمة سلفستر بونار) و(الزنبقة الحمراء) و(تاييس) و(ثورة الملائكة) و(الآلهة عطشى).

وصف أناتول المرأة بأنها (كالعقرب تشُق طريقها في الحياة بأن تلدغ من يقف في طريقها)، وهو بذلك يوجه أقسى اتهام للجنس الناعم، باعتبار أن المرأة تؤذي كل من يحاول إعاقة مسيرتها في سبيل الوصول لما تسعى إليه.

ونلحظ في وصف أناتول قساوة مفرطة جعلت من الكائن الأنثوي شخصية مؤذية تصعد على جماجم البشر، ولا تأبه فيمن يعترض طريقها ويحاول عرقلتها.

ولكنه عاد وأنصفها حينما قال (المرأة هي أكبر مربية للرجل، فهي تعلمه الفضائل الجميلة وأدب السلوك، ورقة الشعور).

أما بلزاك فقد أغرق في تأملاته الفلسفية حين قال (بأن المرأة مخلوق بين الملائكة والبشر). وقد أضفى بذلك ملائكية الخلقة والخلق على المرأة، وفي مقولته إجلال لها وارتقاء بمستواها فضلاً عن تقديس لملكة الأنوثة لدى المرأة، ولكنه عاد ونزل بها لمستوى البشر بما فيهم من شر وخطايا وعيوب!

ويقصد بلزاك بذلك أن المرأة مزيج من الخير والشر، والجمال والقبح، مؤكداً بأنها تتأرجح بين نزاهة الملائكة وخطايا البشر، وهي كائن يحمل بياض المفردة الأولى وسواد الثانية!

وكأن بلزاك قد أعاد الأخلاق التي تحملها المرأة إلى أجواء أفلاطونية يندر وجودها في عالم البشر الحقيقي.

وإذا كان التشبيه السائد يجمع بين المرأة والقطة لتماثلهما في الطواعية والألفة، والشقاوة في بعض الأحيان، فإن للفيلسوف (جون هيود) رأياً آخر حيث يرى بأن المرأة مثل القطة تماماً فكلاهما بسبعة أرواح!

أما بيكاسو ذلك الرسام العظيم فإنه يفسر إشكالية المرأة التي لا تعدو لديه كونها لوحة مختلطة الألوان، حيث يقول عنها: (المرأة في نظري خليط من الألوان والأشكال).

وعندما نأتي لرأي المرأة نجدها لا ترى نفسها سوى مخلوق بسيط وواضح وليست لغزاً يحتاج لمن يحله ويفهمه. ونظرة بسيطة لوجهها تكفي لفهمه، كما تقول أمينه السعيد: (المرأة مخلوق بسيط لا غموض في خلقه، وبنظرة واحدة إلى وجهها يستطيع الرجل الذكي، أو متوسط الذكاء أن يتبين ما يعتمل في قلبها من أحاسيس).

 وتعددت أقوال الفلاسفة حيث قال (رديارد كبلنج) المرأة وحدها هي التي علمتني ما هي المرأة.

كما تعاطى الشعراء أيضاً مع المرأة وحظيت بنصيب وافر من أشعارهم على مر الزمان وتفاوتت آراؤهم فيها، وفقاً لأفكارهم ونفسياتهم وظروفهم الاجتماعية التي تنعكس بالضرورة على نظرتهم لها. وكانت هي الملهمة للشاعر العربي القديم فتغزل بجمالها وحسنها ووصف مشاعره تجاهها من حب وألم وفراق، كالشاعر الجاهلي عنترة بن شداد عندما قال:

ولولاها فتاة في الخيام مقيمة لما

اخترت قرب الدار يوماً على البعدِ

مهفهفة والسحر في لحظاتها

إذا كلمت ميتاً يقوم من اللحدِ

أشارت إليها الشمس عند غروبها

تقول إذا اسود الدجى فاطلعي بعدي

وقال لها البدر المنير ألا اسفري

فإنك مثلي في الكمال وفي السعد

ومنهم من تغنى بذكائها ودهائها، بينما اتهمها آخرون بأنها لا تصلح سوى لأعمال البيت وتربية الأولاد، وأبعدوها عن الفكر والثقافة والأدب، محذرين من لؤمها وغدرها وشدة مكرها. ومن أولئك الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري الذي حملت أشعاره رؤى وأفكاراً فلسفية خاصة، وعرف عنه نظرته الدونية للمرأة والتي لا تصلح بحسب قوله إلا لغزل الصوف والاهتمام بشؤون البيت ولا تصلح للتعلم والكتابة، يقول أبو العلاء المعري:

علموهن الغزل والنسيج والرد

ن وخلوا كتابة وقراءة

وقوله:

فحمل مغازل النسوان أولى

بهن من اليراع مقلمات

ويصف المعري المرأة بصفة الغدر ويشبهها بالأفعى، ويحذر من الاقتراب منها، حيث يقول:

عروسك أفعى فهب قربها

وخف من سليلك فهو الحنش

ويعود موقف المعري العدائي ضد المرأة بلا شك لأسباب نفسية واجتماعية مر بها الشاعر الذي عرف عنه أنه رهين المحبسين، وبالتالي انعكست حالته النفسية على أشعاره وعلى نظرته للمرأة.

وكانت النظرة الشعرية للمرأة منذ العصر الجاهلي لا تتجاوز التعبير عن الجمال الجسدي والحسي والتغزل بمفاتنها، وتطور هذا الوصف ليشمل الجمال المعنوي كوصف ذكائها وحنكتها وأسلوبها في التعبير وذلك في العصر الأندلسي الذي شهد تطوراً نسبياً في رؤية الشعراء للكائن الأنثوي والتعامل معه بنوع من السمو وتباينت صورة المرأة في العصر الأندلسي بين الحسية والرمزية وإن كانت صورتها كجسد طاغية خصوصاً في القرنين الرابع والخامس وكانت هذه الصورة تتفاوت حسب مكانة المرأة سواء كانت ساقية أم حبيبة، وكان هنالك تركيز على الجمال الجزئي في المرأة كالعيون أمثال المعتمد بن عباد وابن شهيد، ثم تغيرت النظرة نوعاً ما وتمازجت بين الصورة الحسية والرمزية خصوصاً عند شعراء العهد الطائفي والمرابطين.

كأبيات الشاعر ابن حزم القرطبي الذي كان أكثر الشعراء احتراماً للمرأة، ومن ذلك أبياته:

وددت بأن القلب شق بمدية

وأدخلت فيه ثم أطبق في صدري

فأصبحت فيه لا تحلين غيره  

إلى ملتقى يوم القيامة والحشر

تعيشين فيه ما حييت فإن أمت

سكنت شغاف القلب في ظلم القبر

وبعد القرن السادس تحولت المرأة إلى صورة رمزية لا يفصح عنها، ويقترن ذكرها بالأماكن والذكريات القديمة وذلك بسبب الانهيار والهروب من الواقع الأندلسي، فكانت الشكاية من المحبوبة الغائبة للتنفيس عن المشاعر المكبوتة والآلام المختلفة.

ومع تقدم الزمن وتطور المجتمع وبفعل التغييرات الكبيرة التي طالت المجتمعات العربية وازدياد الوعي العربي تعاطى الشعراء مع قضية المرأة بشكل مختلف فتحدثوا عن مشاكلها ونادوا بحريتها وضرورة إنصافها من المجتمع، كما فعل نزار قباني الذي لقب بـ(شاعر المرأة) لأنها احتلت النصيب الأكبر من أشعاره، وقد دافع نزارعن حاجات المرأة وهمومها ومتطلباتها، واتهم المجتمع بأنه ذكوري متسلط غير منصف في حقها. ورغم ما واجهه شعر نزار قباني من نقد لاذع لخروجه عن إطار الحرية المعتادة في الشعوب العربية إلا إنه حظي بانتشار واسع لعذوبة لغته وسهولة مفرداته.

وبفعل ظهور الصراعات السياسية والحركات القومية اقتصرت صورة المرأة في الشعر السياسي على صورة أم الشهيد أو أخت الشهيد، وفي بعض القصائد كانت الأم الصورة الرمزية للوطن، ويعود ذلك للحالة النفسية للشاعر القومي الذي أجبر على الانتظار وهو يرى وطنه يتمزق أمام عينيه، ولا يجد لنصرته سبيلاً، وعجزه عن تحرير وطنه مرادف لعجزه عن الوصول لأنثاه ومحبوبته.

من قصيدة ليلي العدنية للشاعر سميح القاسم:

شاءها الله كبلادي العربية

نكهة الغوطة والموصل فيها

ومن الأوراس.. عنف ووسامة

وأبوها شاءها أحلى صبية

شاءها اسماً وشكلاً

فدعاها الوالد المُعجَبُ ليلى

وإليكم أيها الإخوان... ليلى العدنية

وتظل المرأة هي المرأة مهما تغزل بها الشعراء، وداعبت أحلام الفنانين، وانشغل بها الفلاسفة والمفكرون، وتبقى المرأة الصالحة كما يقول ابن المقفع لا يعدلها شيء لأنها عون على أمر الدنيا والآخرة.

المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?id=3892&Archive...

الأكثر مشاركة في الفيس بوك