الإيمان وعمل البرّ والإحسان في اليهودية والمسيحية والإسلام

عزالدين عناية

 

يشكّل مفهوم الإيمان في مدلوله الغيبي في الديانات الثلاث العنصر الجوهري الذي تلتئم حوله جملة من الأبعاد الدينية، ذات الطابع الشعائري والتشريعي. ولئن دأبت أبحاث الأنثروبولوجيا الدينية الكلاسيكية على اختزال الأديان في عناصر ثلاثة: طبيعة الإيمان, وأشكال الطقوس, ومضامين الأساطير، لتستوفي تلك العناصر عمق الدين لديها، فإن تلك المقاربة تبدو قاصرة في الإلمام بروح الديانات الإبراهيمية وغير الإبراهيمية، منذ أن تبين لعلم الاجتماع الديني المعاصر ما للكنائس والجماعات الدينية من دور فاعل في الأنشطة الاجتماعية والخدمات الطوعية والأعمال الخيرية، حيث تُمارَس تلك الفعاليات باعتبارها ترجمة عملية للمفاهيم المفارقة. لقد جاء الانشغال المستجدّ لعلم الاجتماع الديني مدفوعا بالتنبّه إلى آثار الاعتقادات والالتزامات الفردية، وكذلك بالتنبّه إلى دور المؤسّسات الدينية في مختلف قطاعات الحياة الاجتماعية الأخرى. فلا يرفض الدين التواري فحسب؛ بل يشمل بتأثيره عديدًا من المجالات(1).

 

لكن السمة البارزة في تلك الأبعاد الإيمانية والاجتماعية المتداخلة وحدتهُا وتماسكها في التعبير عن عمق الدين وروحه. ولذلك تتعذّر الإحاطة بشكل علمي ووافٍ بأي من الديانات الإبراهيمية ما لم تُشفع العملية بالتطرّق إلى تلك الأوجه المحورية الموزّعة بالتساوي بينها.

 

 

حول اقتران الإيمان بالعمل الصالح:

 

يبرز جليا -وفق التحليل الظواهري- أن مقصد الشعائر يهدف إلى ترسيخ علاقة عمودية بين العابد ومعبوده، علاوة عما يتولّد عن الممارسة الجمعية للشعائر من توطيد علاقة أفقية بين أفراد الجماعة المؤمنة، بما يسهم في تمتين عرى التماسك واللحمة بينها, ويشعرها بالألفة والتضامن. وبصفة ذلك التكاتف عائدًا إلى واعز إيماني، سنحاول في هذه الدراسة تناول ذلك الحافز في اليهودية والمسيحية والإسلام، باعتباره العنصر الذي تنبع منه فلسفة العمل الخيري داخل الجماعة المؤمنة، ولما له من أثر في بلورة حزمة الحوافز والقيم الفاعلة في الذات المؤمنة. ذلك أنه كي تعيش الجماعة عنصر الإيمان بشكل فاعل، ولا يبقى في حيز الإدراك المفارق، لزم أن يتجلى في مدلول نفعي خيري يستشعره المرء في دنياه، بما يوحي إليه أنه يتواجد ضمن كيان جماعي راع، يكون فيه «المؤمنون في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» على حدّ قول المصطفى -صلَّى الله عليه وسلم-. من هذا الباب كان الإيمان على صلة وثيقة بالبرّ والإحسان وبفعل الخير وبالنفع، الأمر الذي جعل الأديان الثلاثة حريصة كلّ الحرص على تمتين تلك العرى بين المفارق والمعيش.

 

فقد رافق الإيمان الإنسان منذ القدم، حتَّى عُدّ جبلّة ونُزّل منزلة الفطرة، وهو ما أفضى بالمقاربات العلمية المتابعة للظواهر الدينية إلى نعت الإنسان بالكائن المتديّن (l’homo religiosus)، بناء على أن الحدث ظاهرة كونية الشيوع، ذات سمات مفارقة وممتزجة عبر الإنسان المدرك في بعده الكلّي والجماعي(2). حيث مفاد ذلك التلازم بين الإنسان والإيمان بلورة سلسلة من القيم المتعالية، على غرار الإيثار والتواضع وخدمة الغير والتآخي والتكافل، التي غالبا ما تتلخّص في مفهوم جامع ألا وهو الإحسان، الذي يقابله في اللاتينية لفظ: Caritas. باعتبار ذلك الإيمان هو من جنس ما لا يستقيم وجود الإنسان إلاّ به، وهو ما نجد إشارة جميلة واردة في الإنجيل إليه في قول: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلمة تخرج من فم الربِّ" (متى4: 4).

 

تلك العلاقة بين الإيمان والإحسان نجدها تتوطّد في الأديان الإبراهيمية، بما يفصح عن عظيم الارتباط والتلازم بين العنصرين، كون الإحسان هو تجلّ عملي لمفهوم الإيمان، يخرج به من حيز المفارقة إلى التمظهر العيني. من هذا الباب، كان الحرص على ألاّ يُعدّ المؤمن خالص الإيمان ما لم يتح للجانب العملي حضورا في ظاهر إيمانه. وربما جاء الاختلاف الأساسي، الذي عرفته الديانات التوحيدية مع نظيراتها اليابانية أو الهندية أو الصينية، في خروجها من استبطان الإيمان، باعتباره انسجاما وتناغما مع الوجود يتمثّل فيه المرءُ العالمَ الطبعي والفضاءَ الاجتماعي بمثابة "حضور خارق" أو "قوة خلاّقة" منظِّمة للكون ومنسابة بشكل خفي في الطبيعة، كما هو الشأن في معتقد الكامي في الديانة الشنتاوية اليابانية(3) ؛ أو باعتباره نهج خلاص يتحرّر السالك بمقتضاه من رغباته وشهواته، بما ينتهي به إلى الانحلال أو الذوبان في النرفانا كما في البوذية، ليبحث من وراء تساميه الروحي عن بلوغ تجليات الإيمان العملية. إذ يخرج مبتغى النجاة/الخلاص من حيز ذاتي إلى أفق شامل، حتَّى يشارف مداه باستيعاب الأخ في الإيمان، وابن الملة، ثم ليشمل كافة الخَلق باعتبارهم عيال الله، كما ورد في الحديث الكريم. فيكون مقصد الإيمان العملي بالأساس فوز الآخر وخلاصه، وكأنه لا إيمان للذات إلا بدمج الغير في حيزها وضمّه إلى حرمها؛ إذ "كافة الأنشطة الليتورجية التي يؤدّيها المؤمن تتوجّه بالضرورة إلى إظهار التناسق بين الانضمام إلى الدين والسلوكيات النابعة منه، بغرض تقوية النجاعة الاجتماعية للرسالة"(4). بلغت تلك الدلالة في المنظور القرآني مداها بربط الإيمان وإتيان العمل الصالح بأحقية الاستخلاف ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم﴾ (النور، الآية: 53). وبالمثل تجلّت تلك الدلالة في المسيحية بخروج مفهوم الفعل الصالح من مدلوله الخاص إلى مدلوله العام "فتكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات؛ فإنه يشرق بشمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار وغير الأبرار" (متى5: 46)، وليست اليهودية بعيدة عن هذا المفهوم الخيري الشامل لكافة البشر: "وأُبدي إحسانا نحو ألوف من محبيّ الذين يطيعون وصاياي" (الخروج20: 6).

 

ففي النصّ القرآني على سبيل المثال، عادة ما يتلازم التحريض على الإيمان بالحثّ على العمل، وقد تكرّر ذلك في نحو تسعين موضعا، وهي ثنائية غالبا ما تردّدت في الحديث النبوي أيضا إلى درجة لافتة، وكأنه لا اكتمال للإيمان إلا بتوفّر ترجمة فعلية وعملية له. فكما ورد في الأثر أن الإيمان "اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح والأركان".

 

ومن جانب آخر، لو تأملنا العهد الجديد لرأينا أن الحثّ على العمل الصالح غالبا ما ورد ضمن مفهوم الخدمة الدينية (diakonia)، التي تعني ضمن السياق الإنجيلي خدمة الجماعة المسيحية تحديدا. حيث تتكرّر في مواضع مختلفة لتصف عدة أصناف من الخدمة، كخدمة موائد المحبة "أما مرْثا فكانت منهمكة بشؤون الخدمة الكثيرة"، كما يرد في إنجيل لوقا (10: 40)، وجمع الصدقات لفقراء أورشليم "لكي تكون خدمتي هذه للقدّيسين في أورشليم مقبولة عندهم"، كما يرد في الرسالة إلى مؤمني روما" (15: 31)، أو في الرسالة الأولى إلى مؤمني كورنثوس "وقد كرّسوا أنفسهم لخدمة القدّيسين" (16: 15).

 

كما تشير الكلمة في العهد الجديد إلى عمل الكرازة المناط بعهدة الرسل وبمن تطوّع من الكهنة خدمة للكنيسة. أما أبلغ الكلمات عن الخدمة التي قالها المسيح -عليه السلام- متحدثاً عن نفسه أنه "ما جاء ليُخدَم؛ بل ليَخدِم" (متى20: 28). في هذا السياق نلمح وإن قامت الكرازة المسيحية على التطوّع "مجّاناً أخذتم فمجّاناً أعطوا" (متى10: 8)، فإن العمل الصالح والخدمة ارتبطا دائما بالتبشير بالإنجيل، ولذا كان الحرص على فعل الخير بهدف نشر كلمة الربّ.

 

وتستمدّ أفعال الخير وإسداء الأعمال الصالحة حوافزهما في اليهودية من فريضة "الصدقة" المستوحاة من النصّ المقدس أساسا، فلم يكن اختيار إبراهيم إلاّ "ليوصي بنيه وأهل بيته من بعده كي يحفظوا طريق الرب، عاملين البرّ والعدل"(التكوين18: 19). ليكون الإحسان عطية خالصة وليس مجرّد تبادل منافع أو إسداء خدمات لأشخاص من خارج العائلة(5). فقلّة البرّ والإحسان مما ينذر بالهلاك، حيث يعزو النبي حزقيال خراب سدوم إلى التفريط في إغاثة الملهوف والمسكين. "فالأرض لن تخلوَ من الفقراء، لهذا أوصيكم أن تسخوا على أخيكم المسكين والفقير والمقيم في أرضكم" (التثنية15: 11). وإن كان فعل الخير متأصّلا في اليهودية على غرار الديانات السماوية الأخرى، فقد شهد منذ مطلع القرن الفائت تحوّلا لافتا في وسائله وأدواته ودوافعه، خصوصا في الولايات المتحدة.

 

العمل الخيري والإطار الاجتماعي:

 

تدين بالأديان الإبراهيمية اليوم تكتّلات حضارية عالمية متباينة المصالح، حيث يتواجد جلّ أتباع الدين الإسلامي ضمن عالم الجنوب، الموسوم بسمات التخلّف، جرّاء ما ترهقه من مشاكل بنيوية، اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية. في حين تتوزّع المسيحية بين عالمين، شقٌّ ينتمي إلى عالم الشمال المترف اقتصاديا والمتفوق سياسيا، ما أبقى ذلك الشقّ قابضا على مقاليد المؤسّسة الكنسية المسكونية، وشقٌّ ضمن عالم الجنوب المرهق اقتصاديا واجتماعيا على غرار شعوب البلاد الإسلامية، ما أفرز تأويلات وتفسيرات للمسيحية مغايرة لما سواها، ودفع باتجاه إنشاء نسخ ملائمة في الدين تجلّت فيما يعرف باللاهوت الأسود في إفريقيا، الذي دفع قدما -على ضوء رسالة العدالة والتحرّر الإنجيلية- بالوعي بكرامة الشعوب الملونّة وقضاياها، التي لا تزال هدفا لأشكال من التمييز المتنوّع؛ ولاهوت العالم الثالث، منذ أن أنشئت الجمعية المسكونية المعروفة بـ(EATWOT,Ecumenical Association of Third World Theologians)، التي اجتمع أعضاؤها في المرة الأولى في تنزانيا سنة 1976، أين صيغ مانفستو دار السّلام، الذي يعدّ الإعلان الرّسمي لمولد لاهوت العالم الثالث. فبعد أن تحولت الكنيسة إلى كنائس ها هي ذي المسيحية أيضا تتوزع بين عالمين(6). أما الديانة اليهودية -سواء في تكتّلها الحاضر في إسرائيل أو في تكتلاتها الأخرى الموزّعة في الدول الغربية- فهي ديانة واقعة في مجملها ضمن عالم الشمال لارتباط مصالح جلّ أتباعها به سياسيا وثقافيا.

 

تحكّمت العديد من العوامل التاريخية في جعل بعض الديانات الإبراهيمية أغزر نشاطا وأكثر انفتاحا من غيرها في التبشير برسالتها الكونية، فعلى خلاف ما حصل مع المسيحية والإسلام من تحمّس للدعوة خارجا وبطرائق شتى، تراجع ذلك المطلب وخَفَتَ في اليهودية، ما جعل الحافز لفعل الإحسان المنفتح محصورا بالجماعات اليهودية، وإن تطلّع خارجا فبصورة محتشمة، متخذا مقاصد أخرى غير ما هو متعارف عليه في المسيحية والإسلام.

 

في التاريخ الحديث كان نشاط العمل الخيري اليهودي مرتبطا أساسا بالشتات اليهودي، وقد تدعّم وبشكل منظم خصوصا مع مؤسّسات: The Boards of Guardians في إنجلترا، وUnterstützungs-Vereine في ألمانيا، وSociétés de Bienfaisance في فرنسا، وThe United Hebrew Charities في الولايات المتحدة، بما كانت تسديه من خدمات ومعونة مادية لمختلف الفئات اليهودية المعوزة والمحرومة(7). لقد لازم فعل الخير -في الديانة اليهودية- أبناء الملة, واقتصر على اليهود دون سواهم. ونجد في الراهن "منظمة الإغاثة اليهودية العالمية" - World Jewish Relief (WJR)- كبرى المنظمات الخيرية تتابع أحوال الجاليات سواء أكان موطنها في شرق أوروبا، أم في روسيا، أم في أكرانيا، أم في غيرها من البلدان التي يتوزع فيها اليهود. كان شُحُّ التبشير في اليهودية في الزمن الحديث مدعاة إلى إبقاء العمل الصالح وفعل الخير محصورا أساسا بالذين هادوا، وإن حصلت بعض التطورات في ذلك، باتجاه من والاهم وناصرهم، منذ أن غدا الإغراء بالعمل الصالح والإغاثة والأعمال الطوعية مدعاة لكسب الأنصار والموالين. لعله في هذا السياق تتفسر وفرة أعداد كبار المتبرعين من اليهود للأعمال الخيرية(8).

 

وفي الوقت الذي غدا فيه فعل الإحسان لدى الكنيسة استراتيجية لجذب الآخر وكسب ودّه -بغرض استمالته للدخول في الدائرة الإيمانية- فإن ذلك المفهوم في تجليه الكوني الإسلامي في ثوبه الجديد لا يزال يخطو خطواته الأولى. فقد انطلق بالأساس -في الزمن الحديث- كتقليد للعمل التبشيري، وإن جاء متأخرا، ناهيك عما تعوزه من خطط علمية تنظم سيره وتضبط أهدافه. لذا ما فتئ الإحسان الإسلامي الحديث ذي الصبغة العالمية، في مراحله الأولى من حيث انبناؤه على قواعد مؤسّساتية, وتحركه ضمن برامج مضبوطة وغايات محددة. فضلا عما يلاقيه ذلك العمل الصالح من ادعاءات مغرضة وتشكيك، بما يؤثر على توسّعه ويحدّ من فعاليته. فالتهمة المغرضة التي طالت منظمات العمل الخيري الإسلامي هي بالأساس أمنية، كونها داعمة للإرهاب وللحركات الأصولية، ما جعل عديد الأنشطة التابعة لتلك المنظمات تبقى وجلة في تدخلاتها, وتجد عراقيل جمة في معاملاتها المالية، على خلاف الأنشطة التابعة للكنائس التي تتحرك طليقة.

 

باعدت تلك الشقة بين العوالم الحضارية، حتَّى انعكست آثارها على الأديان الإبراهيمية، فانبرت كل ديانة مشغولة بعمل الخير وفق منظورها, وداخل الأوساط التي تقدّر تنامي أنصارها فيها, أو تتدعّم فيها مصالحها، ما جعل فعل الخير مصدر تصادم, ومدعاة للانتقادات بينها -خاصة من الطرف المتضرر- أكثر منه مجلبة للأُلْفة والتعاضد بينها، رغم ما يتبدى من تقارب قيمي وروحي بينها. حتَّى أفرز "عمل الإحسان" في بعض البلدان حالات من الاضطراب في بناها الثقافية والدينية، أسهمت أحيانا في إثارة القلاقل بين أبناء الوطن الواحد والتراث الواحد سابقا. الأمر الذي دفع بالكثير من الحريصين على التراث الروحي البشري للإلحاح على ضرورة إنتاج قيم ومبادئ جامعة بين الأديان، أو ما يشبه الأخلاق الكونية الشاملة تراعَى من قِبل الجميع، لعل أبرزهم في هذا المجال كروموال كراوفورد، بما عبر عنه في مؤلّفه: "الأديان العالمية والأخلاق الشاملة" 1990، واللاهوتي الألماني السويسري هانس كونغ، بما سطره في مؤلفه: "مشروع لإرساء أخلاق عالمية جديدة" 1991. فرغم ما تزخر به الأديان الإبراهيمية من تراث قيمي منفتح -شائع بالتساوي بينها- فإن تلك القيم تبدو فاترة في استيعاب الآخر أو مقصّرة في ذلك، فضلا عما يعتري بعضها من مصالح ضيّقة تهدف إلى بلوغ مقصد محدّد لدى الآخر لا غير. وبالتالي، ما يعوز الأديان الثلاثة في حاضرنا هو تفعيل ميثاق قيمي جامع بينها، يتعهد بمقتضاه رجالاتها بالالتزام بعمل الخير المشترك بينها، لتنبثق عن ذلك التكاتف هيئة دينية ساهرة تتولى تفعيل قيم العمل الصالح، وضبط الاختلالات الحاصلة جراء التعايش الحضاري، مع تقديم المقترحات والحلول في الشأن.

 

ولا شك أن الحوارات بين الأديان الثلاثة قد لعبت دورا جليلا في التقريب بينها، بما أسهمت به طيلة عقود سابقة -ولا تزال- في بثّ معاني القيم المشتركة بينها، غير أن تلك الدعوات لم تتطوّر إلى تفعيل عملي لديها؛ حيث غلب على عديد من الحوارات والنقاشات العرض النظري لمفاهيم التقارب والتراحم والأمن والسلام والمحبة، وافتقدت إلى تعاون فعلي في المجال. فضلا عن نأي تلك الملتقيات عن تطارح الإشكاليات القائمة بين تلك الديانات، سواء ما كان منها ذا طابع عقدي أو معيشي أو سياسي(9). ما جعل الخطاب -بعد زهاء نصف قرن من التواجد- يتسرّب إليه الوهن، كونه لم يُفْضِ إلى إنجازات فعلية يستشعرها المؤمن المستضعَف، بما عجز فيه حتَّى اللحظة عن إنتاج قيم مشتركة مبثوثة في الاجتماع البشري. فالقيم المطروحة في تلك الحوارات تبدو من الهشاشة أن باتت محصورة في حيز ضيق لا تتعداه، وغير قادرة على مواجهة الجدل الاجتماعي والعراك السياسي المحتدّ.

 

لذلك كان حريا تناول الفجوة بين ما تصبو إليه الحوارات من تعاون وتعايش ووحدة وما يعاش على أرض الواقع. ففي بلد مثل إيطاليا لا يزال الدين الإسلامي خارج منظومة الأديان المعترف بها، وهو ما يتنافى مع قيم الصالح العام والاحترام التي تنادي بها الأديان. فحين كان برنامج المصادقة على القانون العام بشأن الحرية الدينية مطروحا، اعترضت الكنيسة الكاثوليكية بقوة أمام مجلس النواب الإيطالي في مناسبتين، بتاريخ 9 يناير و19 يوليو من العام 2007، على لسان المونسنيور جوسيبي بيتوري، رئيس المؤتمر الأسقفي الإيطالي حينذاك. لتظل الديانة الثانية -البالغ عدد أتباعها في الوقت الراهن 1.505.000 نسمة- محرومة من عديد الحقوق، لعل أوكدها حق إقامة دور العبادة وحق أبناء أتباعها في "ساعة الدين" في المدرسة، الممنوح للكاثوليك قصرا والمنفي عن المسلمين عمدا. فأن تمارس ديانةٌ هيمنةً على ما سواها تحت مبررات مختلفة؛ فإن ذلك مما يتناقض مع الأخلاق الدينية الجامعة. وعلى خلاف ذلك استطاعت اليهودية أن تسوّي ما بينها وبين المجتمعات المسيحية من تمايز، بلغ حد أن رسمت خطوطا حمراء في الثقافة السائدة في تلك المجتمعات يحظر تخطّيها، سواء أكان في الإعلام أم في التعليم أم في المعاملة. لكن الإسلام لا يزال مفروضا عليه البقاء خارج تلك الدائرة التعاملية، ويفرض عليه عدم الانضمام للدائرة القيمية الغربية، رغم أنه يشكّل الديانة الثانية على مستوى العدد في عديد من البلدان.

 

وبناء على ما تقدّم يلوح جليا أنه ليس يسيرا بلوغ إرساء قيم كونية ما لم تكن مشفوعة بانتقادات بنيوية للحواضن الاجتماعية للأديان؛ إذ يبدو أن التوجهات الحضارية باتت متحكّمة في الدين وفي المؤسّسات الناطقة باسمه. لذا من العبث تطارح قيم مشتركة بين تلك الديانات دون التنبه إلى وطأة ما يشدّ بعضها إلى أنواع من الخيارات السياسية والاقتصادية(10). فالواقع أنه في ظل تعالي عديد الأصوات المشيرة إلى أن المجتمع الدولي لا يحتاج البتة إلى دين واحد ولا إلى إيديولوجيا واحدة، ولكنه في أمسّ الحاجة إلى قيم وقواعد ومُثُلٍ موحّدة بين الجميع(11) ، بات الدين رهينا للمناورة السياسية، ولم يفلت فعل الخير -الذي مكث لصيقا بجوهر الدين عبر العصور- من ذلك التوظيف السياسي. ما جعل هانس جوناس -في كتابه "مبدأ المسؤولية"- ينبه إلى أن السياسة الدولية قد غدت مقفرة من شحنة القيم ومن واعز الخُلق، وهو ما تتهدد آثاره البشرية جمعاء؛ إذ الظرف الحالي موسوم بتحولات كونية هائلة يشهدها العالم، باتت فيها المسؤولية مشتركة، بشأن سطح الكون وجوفه ومياهه، وهي مهمة جادة ملقاة على عاتق العائلة البشرية، بصفة المستقبل الكوني برمته باتت تتهدّده المخاطر(12)

 

العمل الخيري: الفعل النبيل والقصد المريب

 

ما فتئ العمل الخيري في الأديان الثلاثة محكوما بضوابط تلزم فاعله بالنشاط داخل الوطن الواحد، أو داخل القومية الواحدة، أو في أقصى الحالات داخل مجال الدين الجامع. لكن أن يتخطى عمل الإحسان حدود الاعتقاد إلى اتخاذ ملمح كوني، فهو ما لم يشهد تطورا حقيقيا بعد، جراء العديد من مظاهر الريبة التي تحوم حوله؛ إذ تبقى كل عملية انفتاح على الآخر محكومة بأهداف ومقاصد، يرنو الدين الدعوي أو المبشِّر عبرها إلى توسيع رقعة أتباعه، وذلك باعتماد الإحسان سبيلا للاقتناص, وليس باعتباره نابعا من الالتزام بهمّ إنساني نبيل.

 

ففي الجانب المسيحي -وتحديدا مع الكنيسة الكاثوليكية- دبّت تحولات في اللاهوت الكنسيّ (الإكليزيولوجيا) منذ الفاتيكان الثاني (1962-1965)، أدخلت تحويرا عميقا على فعل الإحسان، المستند إلى مفهوم "العقيدة الاجتماعية". كونه ليس طارئا، وليس محصورا بفترة محددة من فترات التاريخ؛ بل هو بُعْد مكوّن للكنيسة ذاتها، كما ضبطته العناصر الثلاثة التالية:

 

-            كلمة الربّ.

 

-            الليتورجيا (احتفالات الأسرار).

 

-            شهادة الإحسان المتجلّية في فعل الخدمة في الحياة اليومية.

 

غير أن ذلك الفعل ارتبط مقصده أساسا بالأنْجَلَة، وإن راج القول: إن الكنيسة تعرض البشارة ولا تمليها على الناس، تاركة لهم الخيرة في قبولها أو رفضها(13). غير أن الكنيسة في الواقع ليست جهازا يسدي خدمات تبعا لبرامج محددة، وليست هيئة خاضعة لرقابة السوق؛ بل هي مؤسّسة ذات رسالة تتلخّص بسرّ حضور المسيح في تاريخ الإنسان(14) ، من هنا تلازمَ فعل الخير لديها بقصد ديني خالص.

 

وإن يكن عمل الجمعيات والمنظمات الطوعية وغير الحكومية جاريا على مستوى أفقي، فإن الإحسان المسيحي يفوقها شمولا، باعتباره يمتد على مستويين أفقي وعمودي، من خلال إسداء المعونة والتبشير برسالة الإنجيل في آن واحد. فلا يقنع الإحسان المسيحي بمهمّة معالجة أدواء المجتمع بل يتجاوزها باعتبار الكنيسة سرّ الاتحاد الخفي مع الرب ووحدة كافة البشر(15).

 

وأما ذلك النشاط الكنسي خارج الفضاء المسيحي -وتحديدا في الدول الإسلامية وفي فضاء الديانات الهندية- فهو يحاول أن يكون دانيا من الشرائح المعوزة، حتَّى يغدو حاجة اجتماعية ماسة, وحتى يكسب عطفا وودّا في أعين الناس. لعله السبيل الذي سلكته مؤسّسة الكاريتاس الكنسية العالمية ذات الطابع الخيري -في الجزائر مثلا- حيث اقتصرت على تقديم العون المادي والغذائي وإسداء الخدمات الصحية والتدريبية. على خلاف ذلك في تونس، فحينما وجدت الكنيسة تسهيلات في القطاع التعليمي -المجال الأثير لديها- أولت ذلك الجانب اهتماما, وتغاضت عن العمل الخيري بوجهيه الصحّي والتدريبي. ولو تابعنا أنشطة تلك المدارس الكنسية في المجتمع التونسي نلاحظ أنها لا تتوجه إلى عموم الناس ولا إلى فقرائهم -كما هو منتظر- ولكنها تستهدف بالأساس أبناء علية القوم، حيث تختزن العائلات الميسورة ثقافة متغرّبة. وبالتالي يتراجع المقصد الخيري لتلك المدارس لتغدو مدارس مصلحية ترنو إلى استيعاب شرائح اجتماعية متنفذة في المجتمع.

 

صحيح أن المسلمين استفادوا من كثير من المساعدات، ولكن تلك المؤسّسات أسهمت في زعزعة المشترك التراثي بينهم وإضعاف الوازع الديني لديهم. وهنا تحولات المقاصد الخلقية، فإن تكن أغراض الخدمة تلبّي حاجة الفئات المعوزة، فلمَ لا تولي الشريحة الأضعف داخل المجتمعات الغربية هذا الحرص، التي يقع الأجنبي المسلم والمهاجر العربي في صدارتها. ففي عمل الإحسان التابع للكاريتاس في روما -الذي يحاول أن يغطّي احتياجات ذوي الفاقة- يأتي غير المسيحي في مستوى ثانوي، لذلك يستشعر المسلم المهاجر ميزا بينه وبين المسيحي في العطاء وفي الشغل وفي المعاضدة.

 

ولكن لا بد من التنبه إلى أن استراتيجيات العمل الخيري الكنسي متنوعة، وهي لا تخضع لضرب موحّد. فحين جنح العمل الخيري المسيحي للخروج من دائرة التحدّد بالمسيحيين، شهد العمل الخيري تطورا لافتا في الأدوات والوسائل، ولم يقتصر على تلبية الضرورات العاجلة والحاجيَّة، بل غدت الخدمة بعيدة الغور. لعلَّ أشكال المعونة والخدمة التي تسديها الكنيسة -من خلال رعاية أبناء الديانات الأخرى، من ذوي المؤهلات العالية، وإلحاقهم بالدراسات العليا- خير مثال لاستيعاب عقول النخبة. فقد تجاوزت الكنيسة الأسلوب المباشر في قلب الإنسان دينياً أو في التمهيد لنكوصه إلى مفهوم أعمق، بكسب ولائه حتَّى بلوغ مستوى من التحكم بوعيه ونظرته. وهي استراتيجية في غاية النباهة، تترك للفرد الخيرة في المحافظة على إرثه الثقافي من عدمه مع التحكم في إدراكه ونظرته للكون. وقد لاحظتُ غور تلك الاستراتيجية بعد أن غدت الكنيسة الكاثوليكية -وبرعاية "مجلس حوار الأديان" (Nostra aetate)- تستجلب الخرّيجين والباحثين المسلمين إلى الجامعات البابوية في روما لتعميق دراساتهم في اللاهوت المسيحي، ولا تفرض على الوافدين انقلابا دينيا أو إكراها؛ بل تستميلهم ليجاروا نسقها الفكري.

 

رصدت الكاتبة الإفريقية دامبيزا مويو في دراسة معمّقة الآثار السلبية للعمل الخيري الموجه لشعوب القارة الإفريقية في كتاب بعنوان: "المعونة القاتلة"(16). خالصة إلى أنه كلما تقلّص التفكير في تطوير روح المبادرة والإبداع لدى الفئات المحرومة صيّرت المعونة هؤلاء الناس أشدّ ارتهانا وأكثر فقرا. من هذا الباب لزم أن يكون لعمل الخير -العريق في الديانات الإبراهيمية- فلسفة ومخطّط؛ حتَّى يغدو مما ينفع الناس ويمكث في الأرض.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1)       دارن شِرْكات و كريستوفر إلّيسون، السّوق الدينية في الغرب، ترجمة: عزالدين عناية، دار صفحات، دمشق 2012، ص25.

2)       ميشال مسلان، علم الأديان، ترجمة: عزالدين عناية، المركز الثقافي العربي، بيروت 2009، ص13.

3)       سابينو أكوافيفا و إنزو باتشي، علم الاجتماع الديني، ترجمة: عزالدين عناية، كلمة أبو ظبي، 2011، ص83.

4)       المصدر نفسه، ص105.

5)        Frederick B. Birdm, A comparative Study of Charity in Christianity and Judaism. In Truth and Compassion Essays on Judaism and Religion in Memory of Rabbi Dr. Solomon Frank, Canadians Corporation For Studied in Religions 1983, p5.

6)        René Coste, L’amore che cambia il mondo. Per una teologia della carità, Città nuova editrice, Roma 1983, pp327-328.

7)        Charity and charitable institutions. In The Jewish Encyclopedia, III, London 1902, pp667-676. Charity. In Encyclopaedia Judaica, Keter publishing house, V, Jerusalem 1971, pp350-352.

8)       تحصي مجلة " "The Chronicle of Philanthropy الأمريكية لسنة 2011 خمسة عشر يهوديا من جملة خمسين ضمن قائمة كبار المتبرعين، في وقت يمثل فيه اليهود 2% من مجمل الشعب الأمريكي، أي بما يعادل 30% من مجمل المتبرّعين.

9)       مثلا: لا تحضر مشاكل المسلمين في الغرب -خصوصا منهم من ذوي الأصول المهاجرة- على طاولة البحث والجلسات الحوارية الإسلامية المسيحية في غالب الأحيان. على خلاف المسائل المتعلقة بالمسيحيين في البلاد العربية والإسلامية الدائمة الحضور في تلك الملتقيات. فهناك رأي شائع وخاطئ أن المسلم ينعم بحقوقه الدينية في الغرب، وبالتالي ليس هناك ما يعكر صفو حياته، في حين أن المتابعة الموضوعية تكشف أن المسلم عرضة لعديد الانتهاكات في حقوقه الأساسية.

10)    José R. Regidor Hans Küng , Con Cristo e Marx, Datanews, Roma 2007, pp80-84.

11)    Hans Küng, Progetto per un’etica mondiale, Rizzoli, Milano 1991, p8.

12)    H. Jonas, Il principio responsabilità: un’etica per la civiltà tecnologica, Einaudi, Torino 1991.

13)    Caritas Italiana, Per una carità aperta al mondo, Edizioni Dhoniane, Bologna 2003, p33.

14)    Ibidem, p12.

15)    Ibidem, pp5-6.

16)    Dambisa Moyo, La carità che uccide. Come gli aiuti dell’occidente stanno devastando il terzo mondo, Rizzoli, Milano 2010.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/5/98

الأكثر مشاركة في الفيس بوك