البحث بين مطرقة الحداثة وسندان التقليد

هبة رشاد الدسوقي

 

كفى شرفاً أن أول ما ابتدأ به نزول القرآن الكريم قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، وهذا يقودنا إلى أن القراءة هي مفتاح العلم، والقلم أداته الفعالة. وقد أقسم الله به في قوله تعالى (ن والقلم وما يسطرون). إن الحق عز وجل منحنا العقل والقدرة على العلم والمعرفة والتمييز بين الأشياء، فأتاح لنا أدوات تحصيل العلم واكتسابه، وأمرنا أن نسلك سبيل العلم النافع، وألا نتبع أمراً لا علم لنا به.

وفي سياق قضيتنا قيد الكتابة حول البحث والتقنية، يجدر بنا التعريف بمفردة البحث، فهو عبارة عن عملية منهجية لجمع المعلومات أو البيانات وتحليلها، بهدف زيادة فهمنا للظاهرة التي تشغلنا، ونقل ما توصلنا له إلى مجتمع علمي واسع. وقد جاء الباحث على وزن الفاعل، وهو من الفعل بحث بمعنى استقصى واجتهد وجاهد وقرأ وسافر وعلم. وشهد التاريخ الإسلامي والعربي نماذج فريدة من الكتاب والعلماء والباحثين والنقاد في شتى المجالات، وحفلت مجالس الحكام قديماً بالعلم والمعرفة والمنافسة والمجاراة، واكتسى الأدب العربي والإسلامي ثوباً قشيباً عكس مجد أمة أنيقة الكلمات، عالية الإحساس، راقية المعاني وسامية الآداب. وها نحن اليوم نردد حكم شعراء ما قبل الإسلام وأمثالهم وتجاربهم، وعندما طل نور الإسلام ازدهرت الحضارات وتطورت المفاهيم وتبلورت في شكل إنساني جديد واعٍ ومحافظ. وتتوالى علينا العديد من النماذج التاريخية في مختلف العصور العربية والإسلامية، تترجم لنا جدية المبدع الأديب العالم الباحث الحكيم الورع، فهذا الإمام الشافعي يسرج مصباحه ليلاً ليدون بقرطاس ودواة خوفاً أن يذهب منه ما وجد، وذاك الجاحظ مات باحثاً تحت كتبه، وتوفي مسلم صاحب الصحيح وهو يطالع كتاباً، وكان أبو الوفاء بن عقيل يقرأ وهو يمشي، وقال ابن الجوزي قرأت في شبابي عشرين ألف مجلد، والإمام أحمد بن حنبل يطوف الدنيا ليجمع أربعين ألف حديث في المسند، وابن حجر يؤلف فتح الباري ثلاثين مجلداً، والحنبلي يؤلف كتاب الفنون سبع مئة مجلد، وابن خلدون وابن رشد، ويا مرحى لدندنة المتنبي في ألسنتنا: وأعز مكان في الدنى سرج سابح/وخير جليس في الزمان كتاب. أسماء خلدت بالرغم من قلة الإمكانات والموارد التقنية. أما في عصرنا الحالي فقد تهيأت لنا كثير من السبل والتقنيات الحديثة في مجال البحث والتعلم، خصوصاً مع ظهور الشبكة العالمية العنكبوتية، أو ما يعرف بالإنترنت التي تحتوي على كميات هائلة من المعلومات في شتى مجالات ونواحي الحياة. وفي خضم هذه الثورة المعلوماتية تقع الكثير من المسؤوليات على عاتق الباحث، وبخاصة في ظل وجود باحثين لا يهتمون بمنهجية البحث العلمي ومراعاة القواعد الأخلاقية التي تسهم في تطوير المحصلة المعرفية، وتأخذ في الاعتبار الحفاظ على حقوق العلماء والكتاب، بعيداً عن سرقة مجهودات الآخرين وإبداعاتهم.

ولعلنا في هذا الصدد نحتاج إلى دراسات متخصصة في ضوابط استخدام التقنية في البحث العلمي من خلال الحكم الشرعي لكثير من الممارسات التقنية في الأبحاث المعاصرة، بالإضافة إلى الحاجة لسن تشريعات قانونية حديثة لتتواءم مع هذه الطفرة المعلوماتية الكبيرة، كذلك يحتاج الباحث في مؤسسات التعليم العالي إلى إستراتيجية علمية واضحة المعالم وقابلة للتطبيق، كما نحتاج إلى إدارات جامعية مؤهلة أكاديمياً وقيادياً. وبما أن الباحث الآن له قدر كبير من الحظ التقني والنهل منه إلا أنه سيتعرض لمحاذير وأضرار، لعل في مقدمتها الأضرار الصحية مثل: (إصابات الضغط المتكرر، الوزن الإضافي، إجهاد العين، اعتلال الدورة الدموية، آلام الظهر والعنق، الصداع والصداع النصفي، الأرق، الإدمان على الإنترنت، التأثير البيئي).

ختاماً، وفي رأيي الشخصي، أن على الباحث: تحديد أهدافه، والالتزام بمناهج البحث العلمي، والمراقبة الذاتية الواعية، ومراعاة الجوانب الإيجابية للثقافات الواردة والفروقات والمفاهيم الفكرية التي تساهم في تطوير وإنتاج مخزون معرفي جديد، ويجب الاهتمام برفع الوعي في البحوث العلمية بتضمين مقرر منهجيات البحث العلمي في المراحل الجامعية وما فوق الجامعية، مما سيسهم في إيجاد جيل واعٍ ومتعلم ومثقف.

المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?Id=3981

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك