الباحث والبحث في زمن التقانات قضايا وإشكالات

د. محمد نوالي

 

أضحت حقوق الملكية الفكرية ومصداقية الأبحاث الجامعية وشخصية الباحث من جهة، والتقانات الحديثة من جهة أخرى من الموضوعات التي تفرض نفسها، لاسيما مع التوجهات الحديثة القائمة على توسيع قاعدة البحث والتعامل مع الإنترنت باعتباره وسيلة معتمدة في مختلف الميادين. حتى غدا وسيلة لا غنى عنها في الحياة العامة، في مجالات التواصل الاجتماعي والتبادل الثقافي والفني، بالدرجة ذاتها التي كان فيها وسيلة للترويج المعلوماتي، وتسهيل سيولة المعرفة وتبسيط طرق الوصول إليها.

فقد سجل الإنترنت حضوره بشكل متصاعد ومطرد في مجال التعليم والتعلم والبحث العلمي، والوصول إلى مصادر المعلومات والمراجع والمصادر.

ومعه لم يعد هناك داعٍ لوجود بريد ولا ساع من أجل إيصال المعلومة ولا الوصول إلى الوثائق المطلوبة في البحث. وبالنظر إلى مرونته أضحى وسيلة فعالة وناجعة من أجل الوصول إلى الوثائق والمكتبات وكافة مصادر المعرفة والمعلومة وبنوكها، كيفما كانت هذه المعلومات والوثائق وبسرعة فائقة. وهو ما يوفر الوقت وحسن الأداء واستثمار المعلومة وحسن تنظيمها ومعالجتها، وتوسيع دائرة المستفيدين منها. الشيء الذي جعل منه أحد الرهانات الواعدة من أجل إنتاج مجتمع المعرفة وتنمية كفايات الأفراد والمؤسسات في أساليب العمل والإنتاج.

وفي حالة عالمنا العربي ومع الاتجاه المطرد من أجل ردم الفجوة الرقمية بيننا وبين البلدان المتقدمة في هذا المجال بات من اللازم إدراك (أهمية الفتوحات التي أنجزتها تقانات المعلومات والاتصالات في تركيب شبكات المعرفة التي أصبحت أدوات ضرورية في نشر وتعميم وتوسيع دوائر المعرفة وتوظيفها في مختلف مجالات الحياة. وبحسابات تتجاوز عوائق الزمان والمكان. بحكم ما أصبحت تقدمه خدمات الإنترنت، على سبيل المثال فقد أصبحت هذه التقانات هي الطريق المناسب والسهل لتحصيل المعارف، وتدعيم وتسهيل البحث العلمي والثقافي على أوسع نطاق ممكن). كما يشير الفصل الرابع من تقرير التنمية في الوطن العربي 2013.

وتبرز الضرورة الملحة المتعلقة بالحسم في أمور أساسية في سياق هذا التطور المطرد التي تعرفه بلداننا العربية، نحو عالم التقانة ومداخلها، والرغبة الملحة في محاولة ردم الهوة والفجوة الرقمية، منها: وضع اللغة العربية في الشبكة، ومشكل سياسة التقانات وتشريعاتها. لا سيما ما تعلق بتوسيع دائرة المستفيدين منها، والقطع مع الفئوية والتشرذم الذي يسم استفادة فئات معينة من إمكانات الشبكة، ووضع جامعاتنا في هذا المجال، وفتح طرق الاستفادة من التقانات واستثمارها. وكذا مسألة حكامة الإنترنت التي تتعلق بمشكل حماية الملكية الفكرية والعلمية، ومصداقية البحث العلمي ونشاط الباحث ونسبة إسهامه الفعلي في البحث في سياق استثماره لما توفره الشبكة العنكبوتية من نصوص مترابطة ومداخل عديدة متشعبة وانسيابية في الموضوعات المختلفة التي يمكن أن تكون موضوعات البحث. وهو ما يقتضي وضع المصالحة بين التكنولوجيا المتمثلة في الإنترنت باعتباره وسيلة للتواصل مع المعارف والمعلومات ومصادرها من جهة، والملكية الفكرية والعلمية ومصداقية البحث العلمي ونزاهة الباحث، من جهة أخرى، لا سيما مع رواج عبارات قدحية مثل ثقافة الإنترنت التي تعني تجميع المعلومات وتكديسها دون روابط فكرية ولا علمية. وكذا تحرج الأساتذة الأكاديميين من قبول الإحالات الإلكترونية ورفض الكثير مما تنقله الشبكة العنكبوتية أكاديمياً.

الإنترنت وشخصية الباحث وظاهرة السطو

يطرح موضوع الحكامة في الإنترنت من أجل تدبير أفضل لمسألة الحماية الفكرية نفسه بإلحاح لاسيما مع انتشار ظاهرة السطو على مجهودات الغير. ولجوء بعض المحسوبين على البحث العلمي إلى توليف وتركيب بين نصوص مختلفة قد تتعارض في الرؤية والطرح، واستخدام المفهوم مع انعدام اليقظة الإبيستيمولوجية. والتسابق في الكتابة في كل الموضوعات دون قاعدة ولا مرجعية علمية ومعرفية محكمة أو تحرج. وقد يصل الأمر بأحدهم إلى كتابة أكثر من مقالة في اليوم وفي موضوعات مختلفة. ونشر أكثر من عشرين كتاباً في أقل من عام. مما يعني أنه يؤلف وينشر كل خمسة عشر يوماً كتاباً. وتوضح مراجعة مثل هذه الكتابات مدى السلخ والتوليف والاضطراب ومراكمة المعلومات دون سند علمي أو فكري، ولا منهجي ولا رؤية واضحة. وذلك علامة على أن السيولة الكتابية دون ضوابط غدت تعلو مساحات ما ينشر ويكتب ورقياً وإلكترونياً، ويُسجل على المواقع المختلفة.

وقد تعدى الأمر إلى فضاء جامعاتنا التي باتت تعرف ظواهر من الإخلال بمصداقية البحث العلمي، وقد ازدادت وتيرته مع انتشار ظاهرة السطو على مجهودات الغير سواء بالنقل المباشر، أم بالتوليف والتركيب، ووضع فقرات ومباحث بل فصول كاملة ودسِّها والنقل الصارخ من لغات أخرى مع الترجمات السيئة التي تنجز على هامش القراءات المتسرعة التي لا تحيط بالموضوع ولا بمجاله أو بما يحتمله المصطلح والمفهوم من دلالات واشتغالات ومرجعيات مضبوطة.

 وهو ما يستوجب طرح موضوع شخصية الباحث ومصداقية البحث ونزاهته في واقع التقانات بجدية وعدم السكوت عنه، من أجل البحث عن حلول جدية ترمي إلى وضع قواعد عملية قانونية وأخلاقية وتقنية من أجل الحماية الفكرية تنسجم مع البنية المعمارية للإنترنت في الوقت الذي توفر له حكامة جيدة في هذا المجال. والتفكير في آليات وإجراءات حقيقية لحماية البحث العلمي الأكاديمي من السقوط في مدارج السطو والاعتداء على الحقوق الفكرية للغير، ومجهوداتهم الشخصية في مجال البحث، لكي لا تصبح الكثير من الأطاريح والرسائل مجرد استنساخ وتوليف وتحوير لما أنجزه الغير. لا سيما مع انفتاح مجتمع البحث الجامعي على استثمار ما توفره التقانات الحديثة من إمكانات هائلة للوصول إلى مصادر المعلومة والمعرفة.

 التربية وترسيخ لذة البحث ومتعته

يتطلب الشعور بلذة البحث تكويناً نفسياً وبيداغوجياً وتربوياً منذ الصغر، وأيام التكوين الأولى. من أجل ذلك كان تكوين الباحث الذي يستمتع بلذة البحث ومعاناته، وصناعته من بداياته الأولى يتم عبر تخليقه، وتربيته على تذوق طعم البحث ولذته من خلال توجيهه على مواجهة الصعوبات والمشاكل المعرفية والمنهجية. وهو ما لا تشجعه كثير من البيئات الدراسية في وطننا العربي لأسباب وعوامل كثيرة تقتضي البحث والدراسة والمراجعة. ونكتفي بملاحظة ظاهرة النقل الحرفي للواجبات المنزلية. واستنساخ ما ينشر ويكتب في الإنترنت التي يقوم بها التلاميذ في مختلف المواد في كل أسلاك التعليم. ويتم الأمر حتى دون قراءتها أو إدراك محتوياتها. وكأن الإنترنت هو المفتاح السحري الذي عليه أن يكون بديلاً لمجهودات التلميذ. وبه يتحول هذا من أداة مساعدة للتواصل إلى المعين الذي يجيب ويفكر بدلهم. كما أنّ ظاهرة الدروس الخصوصية التي تتم دون ضوابط علمية أو أخلاقية أو رقابة تساهم مع التعامل السلبي مع التقانات في صناعة سلوك نفعي انتهازي لدى مجتمع المتمدرسين. فينتج لديهم تضخم الرغبة الملحة في الوصول إلى النتائج الجاهزة دون كلفة ولا عناء ولا مثابرة. وهو ما يفقدهم حس البحث المضني ومتعة تحقيق النتائج بالمجهود الفردي. ويصاحبهم هذا السلوك النفعي في مختلف أطوار حياتهم الدراسية. ومن المعروف أن ظاهرة سلوكية اجتماعية عامة إذا لم تتم السيطرة عليها تصبح مستعصية الحل مع مرور الوقت. مع العلم أن الذي يساهم في صنع الطالب الجامعي الباحث أو الباحث عموماً أستاذاً كان أم طالباً هو سجله الوجداني وتربيته وتخلق سلوكه منذ الصغر.

وعليه، فإن انتشار ظاهرة النفعية والانتهازية ورغبة الوصول إلى النتيجة بأية طرق تبقى من العوامل المؤثرة في توجيه كثير من مجتمع البحث عندنا، لأنها باتت منغرسة في سلوك الفرد وموجهة لتعامله وما يصدر عنه من مواقف. لا سيما ما يتصل بموضوع نزاهة البحث وشرعيته. والذي يتربى على الجاهز ويستلذه سيستعصي عليه طهي طعامه الخاص. والذي يفتقد نكهة الخاص لا يملك غير الانجراف مع الميل العام.

التنافس والتباري

التباري والتنافس شيء مهم في حياة الإنسان لكونه يمد الكائن بالطاقة والتحفيز على العمل وتحقيق النتائج. وأمام كثرة الشواهد التي تمنحها جامعاتنا العربية إلا أن أكثرها لا يجد له مداخل لسوق العمل والشغل. لا سيما ما تعلق منها بالشواهد العليا. وتبقى من المداخل القليلة المتاحة التباري على المناصب والتنافس عليها. وقد تم اللجوء إلى عمليتين في الغالب:

عملية الانتقاء وعملية المقابلة. وتعتبر العملية الأولى حاسمة في مصير المتبارين إذ يتم انتقاء ثلاثة في الغالب من عدد معين قصد اجتياز مباراة المقابلة. وهي عملية تبدو في ظاهرها سليمة ونزيهة وموضوعية. غير أن عملية الانتقاء تتطلب جرداً بالأنشطة والإنجازات البحثية والكتابات، ونسخاً منها، وقد لا تمكن لجان الانتقاء من الاطلاع الكافي على ما يقدمه المتبارون. فيُكتفى بالجانب الكمي على حساب المتن ومصداقيته وقيمته العلمية.

وإذا كان البحث الأكاديمي مازال عندنا ثابتاً في موقفه تجاه ما يُنشر إلكترونياً، في مختلف المواقع والدوريات، وهو أمر قد يكون له مبرراته؛ فإنه لا يتخذ الموقف ذاته مما ينشره الباحث لحسابه الخاص من مؤلفات غير مراقبة علمياً، ولم تجزها لجان علمية. يُيسِّر نشرها تحول النشر إلى الجانب التجاري في الغالب، وكذا سهولة الطبع الذي يساهم فيه انتشار التقانات الإلكترونة من أجهزة النسخ والتوضيب وغيرها. وهو ما يدفع بالكثير إلى مراكمة التأليفات بدون ضوابط علمية ولا تحرج من السطو والتوليف والتركيب والسلخ مستعينين بما توفره مواقع الإنترنت من مصادر ومراجع ومقالات بلغات مختلفة. وهو ما يصعب عملية التتبع واستقصائها. كل ذلك من أجل تضخيم ما يعتبر سيرة علمية ليس لها في الأعم إلا الاسم، ومنجزات من مؤلفات لا تمتلك غير عناوينها. ومع هذا المد يسود التخوف من تناقص في نوعية الباحث الجاد الرصين الذي يغالب نفسه من أجل الوصول إلى ما يمكن تحقيقه بالمجهود الشخصي والإدمان على البحث والتفكير.

الحماية الفكرية وضمان نزاهة البحث ومصداقيته

قد تكون هناك إجراءات قانونية ردعية، وأخرى تربوية بيداغوجية توجه الطالب نحو الاستفادة الممكنة مما توفره التقانات المستجدة في مجال التواصل والمعلوميات دون الإخلال بروح البحث العلمي ومصداقيته ومتعته لدى جمهور الباحثين. والسكوت على هذا السلوك، أو النظر إليه على أنه ظاهرة عامة أصبحت قدراً في أوساطنا التعليمية والجامعية يجب التعايش معها دون البحث عن حلول جذرية للحد منها؛ لن يساهم إلا في تردي وضعية جامعاتنا وتعليمنا عموماً في التصنيف الدولي. ولن يحقق المطلوب من تعليمنا في صناعة الإنسان وتنمية مهاراته وأخلاقه وسلوكه. مع ملاحظة أن انفتاح الجامعة على الإنترنت ما زال محتشماً عندنا في زمن الإنترنت. فالمؤسسات الجامعية لا تتيح الوصول إلى إنتاجها الشخصي من إسهامات باحثيها ومنشوراتها عبر الإنترنت. وهو ما يغيب الشفافية الوضوح، ويؤثر على مصداقية البحث العلمي والمؤسسات التي تنتجه وطنياً وقومياً ودولياً. وربما كان ذلك من أسباب احتلال جامعاتنا مراتب غير محسوبة دولياً. كما أن الأبحاث التي تنال ميزات مثل التنويه والتوصيات بالطبع لا تتكفل الجامعات بنشرها ورقياً أوإلكترونياً. وهو ما يؤثر على وضعها إذ يعرض الكثير منها إلى السطو والاعتداء على الملكية الفكرية. كما أن عدم إشهار هذه البحوث لن يتبين مدى المصداقية التي تتحلى بها.

تركيب وتوجيه

أمام الإشكالية المتعددة الأقطاب التي تتعلق بفلسفة جامعاتنا وطرق تعاملها، ومجتمع الباحثين المضطرب والمتنوع بين الجاد والمتساهل والعصامي والانتهازي، وأمام غياب إرادة حقيقية للإصلاح وشبه فراغ قانوني فيما يخص ضمان حقوق الملكية الفكرية لا سيما ما تعلق به بجانب البحوث الجامعية على مستوى الرسائل والأطاريح والمنشورات الجامعية العلمية وكثير منها تنشر في الإنترنت بدون غطاء ولا حماية قانونية وهو ما يعرضها للسطو والسرقة والاعتداء الفكري على حقوق الغير ومجهوداتهم؛ أمام هذا كله  لا يمكننا أن نتحدث عن النزاهة، ولا عن لذة البحث ومتعته باطمئنان. لأن الباحث المفترض قد يتحول إلى مجرد وثائقي يجلس وراء شاشة الحاسوب يستجمع المعلومات ويركب النصوص ويسلخ منها ما يشاء دون واعز، ولا رؤية علمية، ولا رصانة موضوعية، ولا أفق فكري وعلمي واعد.

المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?Id=3977

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك